في رحلة استثنائية من الأرض إلى السماء، ومن بين تلال الأرض المقدسة، مهد الديانات، عرج النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات لتصبح فيما بعد رحلة تاريخية مقدسة. ومن أرض فلسطين نفسها التي شهدت قصة الإسراء والمعراج، أخبرنا النبي عن صمود أهل بيت المقدس في وجه الظلم والقهر، ، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. لتأتي ذكرى الإسراء والمعراج هذا العام (2024) متوافقة مع حديث النبي عن أهل فلسطين ورباطهم في حرب الإبادة التي يتعرضون لها.

رحلة إعجازية في أرض مقدسية: المعجزتين الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج هما معجزتان حدثنا النبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم- عنهما وعاش كليهما، فما المقصود بهما؟ يقصد بالإسراء رحلته التي أخذه فيها جبريل (عليه السّلام) ليلاً من البيت الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس بفلسطين راكباً دابة البُرَاق، ويُقصد بالمعراج صعوده -صلّى الله عليه وسلّم- برفقة جبريل -عليه السّلام- من بيت المقدس إلى السماوات العلا في معراج أحضره معه سيدنا جبريل -عليه السّلام.

إسراء ومعراج، معجزتان تحكي قصة مواساة ربانية مقدسة

بعد فقد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أولى زوجاته خديجة بنت خويلد وعمه أبا طالب اللذَينِ كانا يؤانسانه ويؤازرانه، ضاقت الأرض بهِ نظراً لما لاقاه من تكذيب وردّ من قبل المشركين. وبعد وفاة عمهِ توفيت زوجته خديجة في نفس العام، فسمي ذلك العام بعام الحزن. وفي سبيل الدعوة ذهب الرسول إلى الطائف وحيداً يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد لكنهم طردوه وسلطوا عليه صبيانهم وغلمانهم يرمونه بالحجارة فآذوه كثيراً وهنا دعا النبي محمد دعاءه المشهور شاكياً إلى ربه: «اللهم إلى من تكلني…» فيرسل الله إليه جبريل مع ملك الجبال ويقول له جبريل لو شئت نطبق عليهم الجبال فيقول النبي محمد: «لا – لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحّد الله» فكرّمه الله بقدرة إلهية وآنسه بحادثة الإسراء والمعراج، فأي تكريم ومؤانسة أشد وأعظم من تكريم كهذا إذ أتى جبريل ليصبح الرسول في رحلة الإسراء والمعراج.

صعود إلى السماء ولقاء مع الأنبياء

أُتيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الَّليلة بالبراق، وهو دابَّةٌ أبيض طويل، ما بين الحمار والبغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، وقد ركبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوجَّه به إلى بيت المقدس، ثمَّ نزل عنه وربطه، ودخل المسجد الأقصى وصلَّى فيه ركعتين، ثمَّ أتاه جبريل بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، فاختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإناء الذي فيه لبنٍ، فقال جبريل -عليه السلام-: “اخترت الفطرة”.

ثمَّ عُرِج بجبريل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السَّماء، فقيل: “من أنت؟” قال: “جبريل”، قيل: “ومن معك؟”، قال: “محمد”، قيل: “وقد بُعث إليه؟” فقال: “قد بُعث إليه”، ففتح فإذا هو آدم -عليه السلام-، فرحَّب به ودعا له بالخير، وكذلك بالثَّانية فإذا به عيسى -عليه السّلام-، ثمَّ الثَّالثة فإذا به يوسف -عليه السّلام-، ثمَّ الرابعة فإذا به إدريس -عليه السّلام-، ثمَّ الخامسة فإذا به هارون -عليه السلام-، ثمّ في السادسة موسى -عليه السلام-، وصولاً إلى السابعة فإذا به إبراهيم -عليه السّلام-، وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور. بعد ذلك توجّه به إلى سدرة المنتهى، عندها رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- جبريل بصورته الملائكيَّة التي خلقه الله عليها، وشاهد الجنَّة والنَّار أيضاً، ثمَّ أوحى الله -تعالى- له ففرض عليه خمسين صلاةً، فلمَّا رجع إلى موسى -عليه السلام- وعَلِم به قال له ارجع إلى ربِّك ليخفِّف منها، فلم يزل يرجع ليخفِّف منها حتى وصلت لخمس صلواتٍ بأجر خمسين صلاةً، ثمَّ عاد إلى بيت المقدس ومعه الأنبياء فصلَّى بهم إماماً، ثمَّ ركب البراق وعاد إلى مكَّة المكرَّمة.

رحلة الرفعة والعزة في وجه الرفض والأذى

مثَّلت حادثة الإسراء والمعراج مواساةً من الله -تعالى- لنبيِّه -عليه الصلاة والسلام-، وذلك بعد أن تعرَّض للرفض والطرد والأذى من قبل أهل الطائف؛ إذ إنَّ للطائف مكانة عالية، ولمَّا أراد الله -تعالى- أن يواسي نبيَّه الكريم من رفضهم له، صعد به إلى السَّماوات العُلا، ولمَّا منعت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطَّواف حول البيت الحرام، واساه ربُّه فجعله إماماً بالأنبياء في المسجد الأقصى. وجديرٌ بالذكر أنَّ هذه الرحلة قد تجلَّت فيها العديد من آثار ومظاهر رحمة الله -تعالى- بنبيِّه الكريم -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث شاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من آيات ربِّه الكُبرى ما علم بها أنَّ مآل دعوته هو النَّصر والنَّجاح، فرضي واطمأنَّ قلبه، وانشرح صدره، وزال ما به من همّ وغمّ، صلوات ربي وسلامه عليه.وكما أتت هاتين المعجزتين كمواساة ربانية لنبينا الحبيب محمد -عليه الصلاة والسلام- عندما تعرض للكثير من المآسي والأحزان, فإن حديثه عن أهل بيت المقدس يأتي كمواساة وتشريف لأهلنا في فلسطين عمومًا وغزة على وجه الخصوص, في ظل ما يتعرضون لهم من أبشع أنواع الإبادة, الظلم, النزوح, الجوع, والقهر على مدار أربع شهور مستمرة لم تتوقف, نسأل الله النصر والتمكين لهم على عدوهم الغاصب وأن تاتيهم بشرى النصر كما بشر نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.